الشرق الأوسط" كانت أول من فضح انتهاكات معتقل الجادرية قبل شهرين من اكتشافه
لجمعـة 26 شعبـان 1426 هـ 30 سبتمبر 2005 العدد 9803
بغداد التي هي ليست بغداد ... غابت عنها الدولة والقوانين ووقعت تحت سيطرة الميليشيات
ملجأ الابنة الصغرى لصدام ومقر وزير الداخلية السابق يتحول إلى معتقل.. المحققون فيه إيرانيون ....
بغداد: معد فياض
هنا بغداد.. ولكن اية بغداد التي هنا؟ تلك بغداد التي لا نعرفها ولا نريد لها ان تكون هكذا.. اتساءل: هل المغول مروا بها يوم امس فقط يقودهم قائد الدمار وناشد الموت هولاكو حتى تحولت الى ما يشبه الانقاض؟
اتطلع من نافذة طائرة الهليكوبتر التي اقلتنا من مطار بغداد حتى مركز العاصمة فتبدو البيوت التي تحتنا وكأنها اطلال مدينة تاريخية لولا الحركة الكسولة واليائسة التي تدب فيها.. بيوت كالحة وخرائب تنتشر هنا وهناك، وما يميز المشهد او يمنحه لونا آخر هي تلال الزبالة التي بدت واضحة حتى من ارتفاع الف متر، ولو كانت نافذة الهليكوبتر مفتوحة ربما لوصلت الى انوفنا رائحة المياه الآسنة التي تحولت الى بحيرات بين بيوت حتى المناطق الراقية، وعفونة تلال الزبالة التي اضحت علامة من علامات مدينة اختيرت في اواسط الثمانينات كأنظف مدينة في العالم.
أبحث عن بغداد في بغداد فلا اجدها. تلك المدينة التي اشتُقَّت منها مفردة الدلال والغنج والترف (التبغدد). والذين يتبغددون في بغداد اليوم هم الخارجون عن القانون المدني والديني والاعراف الاجتماعية والاخلاقية وقوانين العشيرة.
اما القانون فلا وجود له هنا، واكثر من التقيتهم في بغداد يقولونها بصراحة «العراق يعيش بلا دولة.. بلا سلطة للقانون.. السلطة للأقوى.. والامور منفلتة».
كنت قد زرت بغداد ثلاث مرات منذ حرب 2003، وكانت آخرها خلال فترة الانتخابات التي جرت مطلع العام. كنت اتمشى في شوارعها مطمئنا، وكان أمل الناس وتفاؤلهم، بأن اليوم هو افضل من الامس وان الغد سيكون افضل، يصيبني بعدواه. كان الناس يسهرون في الشوارع ولم اكن اشعر بما يحدث من تفجيرات الا عندما اسمعها في نشرات الاخبار، لكن كل شيء تغير اليوم.
عندما علم بعض الاصدقاء بوصولي حذروني من الخروج الى الشوارع: لا نريد ان نعرف اين انت ولا تدل احدا على مكان اقامتك، فهناك اكثر من جهة تقوم اليوم بالاختطاف والقتل. ولسوء الحظ انني سمعت هذه التحذيرات حتى من مسؤولين امنيين كبار في الحكومة العراقية. احد هؤلاء المسؤولين قالها بصراحة «انا سجين مكتبي وبيتي الذي يقع في منطقة محمية امنيا ولا استطيع ان ازور بيت اهلي خشية اغتيالي».
اين اذن هي الحكومة ؟ يقول صاحب محل لبيع اجهزة الهاتف المحمول «الحكومة هي التي تحكم الشارع، والشارع هنا تحكمه الميليشيات وانت لا تستطيع ان تميز بين رجال الشرطة او الجيش وعناصر الميليشيات فجميعهم يرتدون ذات البدلات العسكرية».
حتى اصل الى بيت وزير سابق لا يبعد عن المكان الذي اقيم فيه سوى اقل من كيلومترين كان عليه (الوزير السابق) ان يرسل الي ضابط شرطة مما تبقى له من فريق حمايته يقود سيارة اجرة (تاكسي) ومعه شخص مسلح (مدني). قاد هذا الضابط السيارة عبر فروع وازقة كثيرة كي يضمن وصولنا بامان. في الطريق اوقفتنا نقطة حراسة قريبة من بيت الوزير، قرأوا اسماءنا في الهويات التي طلبوها منا، اضطررت ان امنحهم رخصة قيادة سيارة عراقية .. بعد قليل قال احدهم «تحركوا». سألت الضابط ـ السائق عن هذه المجموعة فقال «هؤلاء افراد منظمة بدر» التابعة للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية (شيعي). شبان مدججون بالاسلحة وسيارتا بيك آب فوقهما اسلحة ثقيلة. بدا الضابط ـ السائق الشاب منزعجا للغاية وقال «تصور انا ضابط شرطة برتبة رائد علي ان اتوقف وامنح هويتي لشاب لا علاقة له بالدولة ولا بالاجهزة الامنية سوى انه من ميليشيات بدر». على مقربة من موقع نقطة تفتيش بدر احتشد مسلحون عند احد المداخل، شرح الضابط قبل ان اسأله «هنا يقع ملجأ كان لابنة صدام حسين الصغرى ، حلا، وكان وزير الداخلية السابق فلاح النقيب يستخدمه مقرا له وقد سيطر عليه افراد ميليشيا بدر وحولوه الى معتقل يضم اليوم المئات من المعتقلين ويتولى بعض ضباط الاستخبارات الايرانية التحقيق مع المعتقلين العراقيين»، مؤكدا ان ابن عمه كان بين المعتقلين وتم الافراج عنه مقابل مبلغ عشرة الاف دولار. قال «لقد اختطفوه لانه سني من عشائر الدليم وهو شاب ما يزال طالبا جامعيا، وبحكم علاقاتي عرفت انه في هذا المعتقل، وبعد توسطات ومفاوضات طلبوا عشرين الف دولار لكننا انتهينا الى دفع نصف المبلغ مقابل اطلاق سراحه».
ينقل هذا الضابط عن ابن عمه الذي رفض ان التقيه بسبب ما يعيش من صدمة نفسية قائلا «تعرض للتعذيب والاهانة وحقق معه ضابط مخابرات ايراني لإجباره على الاعتراف بانه ضد منظمة بدر»، مشيرا الى ان المعتقل يزدحم كل يوم بالشباب الذين يجلبون معصوبي الاعين وموثقي الايدي بعد منتصف كل ليلة. وعندما نقلت اليه تصريح مسؤول كبير في المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بان لا وجود لنفوذ ايراني في العراق ضحك الضابط وقال «استاذ، من يحكم العراق اليوم هي ايران واجهزتها الاستخباراتية».
في بيت الوزير السابق نتعرف على المزيد من الحكايات التي تشبه الخيال. انه اسير بيته ولا يتحرك خارجه الا بصورة سرية وعبر شوارع محمية امنيا. يقول «لا اعرف من الذي يريد اغتيالي، هل هم الارهابيون؟ ام الصداميون؟ ام ميليشيا بدر؟ ام جيش المهدي... وربما متنفذون في الحكومة الحالية»، معتبرا ان الزرقاوي هو اداة من ادوات ايران. يقول «الزرقاوي كان سائق شاحنة ولا يتمتع بهذا النفوذ لولا وقوف دولة وراء اعماله تزوده بالمال والسلاح والخطط». في مجلسه اتعرف على عقيد في الشرطة العراقية جاء يشكو فصله من وظيفته لا لسبب سوى لانه من الطائفة السنية، مؤكدا صدور مذكرة سرية تقضي بفصل 200 ضابط سني من وزارة الداخلية. سألته مستوضحا «هل تمت احالتكم على التقاعد؟»، قال «لا ، لقد تم فصلنا واليوم شاهدت اسمي في مذكرة المفصولين ولم يمنحوني نسخة من قرار فصلي كما لم يوضحوا اسباب الفصل».
وهذا الضابط الذي كان عقيدا في الجيش واعيد تعيينه بنفس رتبته في الشرطة وكان من المعارضين للنظام السابق وهاربا الى سوريا منذ سنوات، وهذا يعني انه لم يفصل بسبب قانون اجتثاث البعث، يعتقد ان سبب فصله هو قيادته لقوة من الشرطة لتحرير مجموعة من الرهائن السنة كانوا محتجزين من قبل «جيش المهدي» التابع لمقتدى الصدر في حسينية المصطفى في حي أور بجانب الرصافة من بغداد. يقول «بلغتنا معلومات مؤكدة عن وجود رهائن في حسينية المصطفى، طوقنا الحسينية وطلبنا من المسلحين الذين انتشروا حول الحسينية بالعشرات ان يسلمونا الرهائن فرفضوا واطلقوا النار علينا، وبعد قليل جاءتني الاوامر من وزارة الداخلية بان انسحب مع قوتي من الشرطة وانسحبت فعلا، والالم يعتصرني لعدم تحريري الرهائن. بعد خمسة ايام وجدوا الرهائن قتلى قرب قناة الجيش وقد تعرضوا للتعذيب قبل قتلهم».
ها هي بغداد اليوم، عاصمة بلا قوانين وبلا حكومة، تقع تحت سيطرة الميليشيات.
اتطلع من نافذة طائرة الهليكوبتر التي اقلتنا من مطار بغداد حتى مركز العاصمة فتبدو البيوت التي تحتنا وكأنها اطلال مدينة تاريخية لولا الحركة الكسولة واليائسة التي تدب فيها.. بيوت كالحة وخرائب تنتشر هنا وهناك، وما يميز المشهد او يمنحه لونا آخر هي تلال الزبالة التي بدت واضحة حتى من ارتفاع الف متر، ولو كانت نافذة الهليكوبتر مفتوحة ربما لوصلت الى انوفنا رائحة المياه الآسنة التي تحولت الى بحيرات بين بيوت حتى المناطق الراقية، وعفونة تلال الزبالة التي اضحت علامة من علامات مدينة اختيرت في اواسط الثمانينات كأنظف مدينة في العالم.
أبحث عن بغداد في بغداد فلا اجدها. تلك المدينة التي اشتُقَّت منها مفردة الدلال والغنج والترف (التبغدد). والذين يتبغددون في بغداد اليوم هم الخارجون عن القانون المدني والديني والاعراف الاجتماعية والاخلاقية وقوانين العشيرة.
اما القانون فلا وجود له هنا، واكثر من التقيتهم في بغداد يقولونها بصراحة «العراق يعيش بلا دولة.. بلا سلطة للقانون.. السلطة للأقوى.. والامور منفلتة».
كنت قد زرت بغداد ثلاث مرات منذ حرب 2003، وكانت آخرها خلال فترة الانتخابات التي جرت مطلع العام. كنت اتمشى في شوارعها مطمئنا، وكان أمل الناس وتفاؤلهم، بأن اليوم هو افضل من الامس وان الغد سيكون افضل، يصيبني بعدواه. كان الناس يسهرون في الشوارع ولم اكن اشعر بما يحدث من تفجيرات الا عندما اسمعها في نشرات الاخبار، لكن كل شيء تغير اليوم.
عندما علم بعض الاصدقاء بوصولي حذروني من الخروج الى الشوارع: لا نريد ان نعرف اين انت ولا تدل احدا على مكان اقامتك، فهناك اكثر من جهة تقوم اليوم بالاختطاف والقتل. ولسوء الحظ انني سمعت هذه التحذيرات حتى من مسؤولين امنيين كبار في الحكومة العراقية. احد هؤلاء المسؤولين قالها بصراحة «انا سجين مكتبي وبيتي الذي يقع في منطقة محمية امنيا ولا استطيع ان ازور بيت اهلي خشية اغتيالي».
اين اذن هي الحكومة ؟ يقول صاحب محل لبيع اجهزة الهاتف المحمول «الحكومة هي التي تحكم الشارع، والشارع هنا تحكمه الميليشيات وانت لا تستطيع ان تميز بين رجال الشرطة او الجيش وعناصر الميليشيات فجميعهم يرتدون ذات البدلات العسكرية».
حتى اصل الى بيت وزير سابق لا يبعد عن المكان الذي اقيم فيه سوى اقل من كيلومترين كان عليه (الوزير السابق) ان يرسل الي ضابط شرطة مما تبقى له من فريق حمايته يقود سيارة اجرة (تاكسي) ومعه شخص مسلح (مدني). قاد هذا الضابط السيارة عبر فروع وازقة كثيرة كي يضمن وصولنا بامان. في الطريق اوقفتنا نقطة حراسة قريبة من بيت الوزير، قرأوا اسماءنا في الهويات التي طلبوها منا، اضطررت ان امنحهم رخصة قيادة سيارة عراقية .. بعد قليل قال احدهم «تحركوا». سألت الضابط ـ السائق عن هذه المجموعة فقال «هؤلاء افراد منظمة بدر» التابعة للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية (شيعي). شبان مدججون بالاسلحة وسيارتا بيك آب فوقهما اسلحة ثقيلة. بدا الضابط ـ السائق الشاب منزعجا للغاية وقال «تصور انا ضابط شرطة برتبة رائد علي ان اتوقف وامنح هويتي لشاب لا علاقة له بالدولة ولا بالاجهزة الامنية سوى انه من ميليشيات بدر». على مقربة من موقع نقطة تفتيش بدر احتشد مسلحون عند احد المداخل، شرح الضابط قبل ان اسأله «هنا يقع ملجأ كان لابنة صدام حسين الصغرى ، حلا، وكان وزير الداخلية السابق فلاح النقيب يستخدمه مقرا له وقد سيطر عليه افراد ميليشيا بدر وحولوه الى معتقل يضم اليوم المئات من المعتقلين ويتولى بعض ضباط الاستخبارات الايرانية التحقيق مع المعتقلين العراقيين»، مؤكدا ان ابن عمه كان بين المعتقلين وتم الافراج عنه مقابل مبلغ عشرة الاف دولار. قال «لقد اختطفوه لانه سني من عشائر الدليم وهو شاب ما يزال طالبا جامعيا، وبحكم علاقاتي عرفت انه في هذا المعتقل، وبعد توسطات ومفاوضات طلبوا عشرين الف دولار لكننا انتهينا الى دفع نصف المبلغ مقابل اطلاق سراحه».
ينقل هذا الضابط عن ابن عمه الذي رفض ان التقيه بسبب ما يعيش من صدمة نفسية قائلا «تعرض للتعذيب والاهانة وحقق معه ضابط مخابرات ايراني لإجباره على الاعتراف بانه ضد منظمة بدر»، مشيرا الى ان المعتقل يزدحم كل يوم بالشباب الذين يجلبون معصوبي الاعين وموثقي الايدي بعد منتصف كل ليلة. وعندما نقلت اليه تصريح مسؤول كبير في المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بان لا وجود لنفوذ ايراني في العراق ضحك الضابط وقال «استاذ، من يحكم العراق اليوم هي ايران واجهزتها الاستخباراتية».
في بيت الوزير السابق نتعرف على المزيد من الحكايات التي تشبه الخيال. انه اسير بيته ولا يتحرك خارجه الا بصورة سرية وعبر شوارع محمية امنيا. يقول «لا اعرف من الذي يريد اغتيالي، هل هم الارهابيون؟ ام الصداميون؟ ام ميليشيا بدر؟ ام جيش المهدي... وربما متنفذون في الحكومة الحالية»، معتبرا ان الزرقاوي هو اداة من ادوات ايران. يقول «الزرقاوي كان سائق شاحنة ولا يتمتع بهذا النفوذ لولا وقوف دولة وراء اعماله تزوده بالمال والسلاح والخطط». في مجلسه اتعرف على عقيد في الشرطة العراقية جاء يشكو فصله من وظيفته لا لسبب سوى لانه من الطائفة السنية، مؤكدا صدور مذكرة سرية تقضي بفصل 200 ضابط سني من وزارة الداخلية. سألته مستوضحا «هل تمت احالتكم على التقاعد؟»، قال «لا ، لقد تم فصلنا واليوم شاهدت اسمي في مذكرة المفصولين ولم يمنحوني نسخة من قرار فصلي كما لم يوضحوا اسباب الفصل».
وهذا الضابط الذي كان عقيدا في الجيش واعيد تعيينه بنفس رتبته في الشرطة وكان من المعارضين للنظام السابق وهاربا الى سوريا منذ سنوات، وهذا يعني انه لم يفصل بسبب قانون اجتثاث البعث، يعتقد ان سبب فصله هو قيادته لقوة من الشرطة لتحرير مجموعة من الرهائن السنة كانوا محتجزين من قبل «جيش المهدي» التابع لمقتدى الصدر في حسينية المصطفى في حي أور بجانب الرصافة من بغداد. يقول «بلغتنا معلومات مؤكدة عن وجود رهائن في حسينية المصطفى، طوقنا الحسينية وطلبنا من المسلحين الذين انتشروا حول الحسينية بالعشرات ان يسلمونا الرهائن فرفضوا واطلقوا النار علينا، وبعد قليل جاءتني الاوامر من وزارة الداخلية بان انسحب مع قوتي من الشرطة وانسحبت فعلا، والالم يعتصرني لعدم تحريري الرهائن. بعد خمسة ايام وجدوا الرهائن قتلى قرب قناة الجيش وقد تعرضوا للتعذيب قبل قتلهم».
ها هي بغداد اليوم، عاصمة بلا قوانين وبلا حكومة، تقع تحت سيطرة الميليشيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق