سقوط الإمبراطورية والديكتاتور(5-20)
كتاب يوميات الصحفي المصري محمود الشناوي
المدنيون نكصوا من تجاهل هوياتهم المذهبية إلى إخفائها خوفاً من حفلات التعذيب
أقبية الموت ومخافر النخاسة.. في العراق كل الغرباء للبيع
محمود الشناوي
كان التوقيف، منذ عام 2006 أو بداية الانفجار الطائفي، في معظم الأحوال أول الطريق الى الموت، وذلك عبر سلسلة من الأحداث تبدأ بالتعرف على هوية الشخص محل التوقيف سواء في نقطة التفتيش الرسمية التابعة للدولة أو الوهمية التابعة للميلشيات وفرق الموت، وبعد التعرف على هوية الضحية تتواصل الخطوات لزجه في أحد سجون أقسام الشرطة حتى يتم النظر في أمره أو بيعه لاحدى الجهات أو العصابات ما لم ينقذه القدر وتتدخل الجهة التي يتبعها أو أهله أو أي شخص يقدم له المساعدة.
الغرباء.. أول المستهدفين
وكان أكثر المستهدفين في تلك الأثناء هم الغرباء خاصة العرب وفئات بعينها على رأسها الصحافيون طبعا، ولأنني صحافي ومصري فقد كنت أعلم ان بداية طريق الموت هو ان يتم توقيفي في احدى نقاط التفتيش لأتحول الى سلعة يتم بيعها لاحدى الجهات حتى تجري المساومة على دفع مبالغ مالية تصل الى عشرات الآلاف من الدولارات أو يتم تحويلي الى جثة مجهولة الهوية بعد وجبات التعذيب المدعومة بتهم جاهزة، كوني أعمل بمهنة الصحافة وعربي الجنسية .
ولأنني كنت أدرك ذلك جيدا فقد كنت أتحاشى العبور في مناطق يمكن الوقوع خلالها في براثن احدى نقاط التفتيش، الا ان ما كنت أخشاه حدث ذات يوم في منطقة تقع في قلب العاصمة بغداد نهاية العام 2006 حيث كانت الأجواء مشحونة لدرجة ان الموت يزحف في الطرقات باحثا عن زبائن، حيث اضطرتني ظروف المرض الى الذهاب لمستشفى الراهبات الواقع في منطقة الكرادة عصر أحد أيام الجمعة التي لم أجد فيها من يصحبني الى المستشفى، واستوقفتني احدى نقاط التفتيش الرسمية وطلبت أوراقي الشخصية التي كانت في حد ذاتها اتهاما حيث انني مخالف شروط الاقامة بسبب عدم وجود موافقات لمنح الاقامة للعرب باستثناء فريق الدفاع عن صدام حسين والدبلوماسيين وموظفي المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني رغم أنني أعمل في جهة رسمية وجئت الى بغداد موفدا من وكالة الأنباء الرسمية المصرية الا ان تعليمات منح الاقامة كانت في هذا الوقت تنص على عدم منحها الا بموافقة شخصية من وزير الداخلية وبطلب شخصي حالت الظروف دون الحصول عليها أشهر عدة كون الدخول الى مقر وزارة الداخلية في حد ذاته كان أحد طرق الموت للغرباء ونصحني الأصدقاء بعدم الاقدام عليه تحت أي مسمى.وبعد جدل عقيم مع مسؤول نقطة التفتيش أصر على توقيفي تمهيدا لارسالي الى السجن ثم ترحيلي الى مديرية الاقامة لتقول كلمتها بعد أيام عدة وفقا لما أبلغني رغم أنه أكد لي أنه يصدقني وأنني لا ذنب لي في عدم الحصول على اقامة رسمية لكنه القانون ، وقال لي «أعرف أنت صادق.. لكن الاقامة مو خوش أوادم.. هم لا يعطون الاقامة .. لكن شسوي لابد أطبق القانون وأدبك بالتوقيف».. شعرت أنها النهاية وارتعدت فرائصي وعجزت عن التفكير للحظات بعد ان جف الدم في عروقي عندما تصورت مصيري.
وبعد لحظات فارقة، تذكرت سلسلة النصائح التي كان يرددها على مسامعي الأصدقاء وأخرجت قائمة الهواتف، وبعد محاولات عدة للوصول الى منقذ بسبب سوء شبكة الاتصالات الهاتفية تمكنت من الاتصال بشخص يدعى «سيد علي» وهو شيعي من سكان مدينة الصدر يعمل أخوه ضمن تنظيمات جيش المهدي الا أنه كان يحب المصريين، وطلبت من سيد علي ان ينقذني من مصير السجن والعرض على مديرية الاقامة وهو طريق محفوف بالمخاطر ربما ينتهي بالموت أو في أفضل الأحوال المساومة على دفع فدية أو الاثنين معا كما كانت تجري الأمور حيث يتم قتل الضحية بعد الحصول على الفدية.
طمأنني «سيد علي» وطلب مني ان أبلغ الضابط المسؤول عن نقطة التفتيش ان «سيد» سيأتي لاصطحابي وانهاء الموقف، وبالفعل استجاب الضابط عندما سمع الاسم وتغيرت طريقة التعامل معي حتى جاء السيد واصطحبني مع نصيحة بمعالجة الأمر لأنه من الممكن ان تجري الأمور بعد ذلك على غير ما جرت هذه المرة.. ونبهني ان دخولي الى أي سجن سواء لقسم الشرطة أو السجون العامة أو حتى سجن الاقامة معناه النهاية في معظم الأحوال، وكانت الرسالة واضحة تماما بالنسبة لي، اما تقنين وجودي بالعراق مع عدم التحرك الا بمرافق أو الرحيل والعودة الى مصر سالما .
الرشوة هي القانون
ودلني الرجل على طريق معتاد للحصول على موافقة وزير الداخلية وهو دفع مبلغ من المال لأشخاص معروفين يقدمون مثل هذه الخدمات وتأكدت من الأمر بعدما اتصلت بزميلي مراسل جريدة «الأهرام» المصرية في العراق الذي أبلغني أنه يعرف مثل هذا الطريق وسيقوم باللازم بعد دفع المبلغ المطلوب وهو بضع مئات من الدولارات، حيث سبق وحصل على الاقامة بالطريقة نفسها في وقت سابق وهو في طور التحضير لتجديدها من خلال دفع مبلغ مطلوب للحصول على موافقة وزير الداخلية، وبعد نحو شهرين من المساومات والمفاوضات تمكنت أنا وزميلي مراسل جريدة «الأهرام» من الحصول على اقامة رسمية بعد دفع المبالغ المطلوبة كرشاوى عرفت أنها صارت عرفا وتقليدا لانهاء أي أمر بالعراق في زمن المذابح .
ورغم افلاتي من براثن الاعتقال أو التوقيف الا ان شعوري بالقلق والخوف لم يفارقني بعد ان اقتربت كثيرا من بداية طريق الموت خاصة بعد ان علمت الكثير من التفاصيل عن وقائع ما يجري بالسجون والمعتقلات العراقية فيما بعد من أهالي ضحايا تحولوا الى جثث مجهولة الهوية أو لقوا مصرعهم بعد وجبات التعذيب أو استمروا كمعتقلين دون توجيه اتهامات محددة لسنوات عدة أو من ناجين ساعدتهم الظروف على الخروج من طريق الموت الذي يبدأ بالاعتقال.
أما تجارة البشر فهي الأشد وطأة، لما لها من احساس بضياع الكرامة حيث كان هذا السيناريو الأشد رعباً في أيام المذبحة، حيث يطلب لص الأرواح من مرافق الضحية ان يبيعه له ومن ثم يبيعه هو الآخر لمن يدفع الثمن ويفوز بالضحية ليقتلها أو يساوم عليها مقابل فدية .
يقول «عدنان . أ» الذي كان يعمل مصورا لحساب وكالة «الاخلاص» التركية انه تم اعتقاله مع صحافي تركي، عندما كان يقوم بتصوير مشاهد فيديو لما بعد تفجير حدث في ساحة الطيران، وسط بغداد، في بدايات عام 2007، وكان تفجيرا انتحاريا مروعا أدى الى مقتل أكثر من 200 شخص، حيث كانت الوكالة ترسل صحافيا أو اثنين من الأتراك ليتابعوا سير الأمور مع فريق العمل العراقي الذي كان يقوده «الحاج أحمد»، وتم توقيف الاثنين في سجن ملحق بالمخفر .
تجارة البشر
وفي أول ليلة قضاها عدنان يكفكف دموع زميله الصحافي التركي الذي لم يعتد تلك الحياة الخشنة المصحوبة بتحرشات من كل نوع يتناوبها زملاء عنبر الاحتجاز، حتى اقترب منه أحدهم وسأله «تبيعه؟.. هذا التركي خوش صفقة» أي أنه صفقة جيدة رابحة وستربح معنا وتضمن سلامتك أيضا.
ويقول عدنان: «داهمني السؤال وشعرت بالغثيان مما يحدث.. نعم كنت أسمع عن مثل هذه الامور ولكن ان تكون بطلا لأحد سيناريوهات بيع الضحايا فهذا أمر غير معقول ولا يمكن احتماله .. المهم أنني تظاهرت بالرضا وطلبت منهم الوقت لأرتب الأمر وأرسلت رسالة بهذا المعنى الى الحاج أحمد لينقذ ما يمكن انقاذه» .
ويضيف: استقبل الحاج أحمد الرسالة ومنذ الصباح الباكر تحرك مستخدما كل ما أوتي من قوة ونفوذ وعلاقات وأموال وأوراق ضغط واستعطاف لكل الجهات المعنية حتى لا تتم صفقة البيع سواء وافق عدنان أو رفض، وبعد محاولات استمرت ساعات عدة كان عدنان يحاول خلالها مجاراة عراب الصفقة التي يعلم نهايتها، ويتابع قائلا: نجح الحاج أحمد في نقلي والصحافي التركي الى عنبر آخر واستصدار قرار بتحويلهم الى قاضي تحقيق حتى يكونوا في مأمن باعتبارهم حصلوا على أرقام ومواعيد تمنع سلخهم واخفاء آثارهم داخل المخفر، وبعد وساطات عدة كان السفير التركي في العراق طرفا في احداها تم اطلاق سراحنا أما الصحافي التركي فجرى اخراجه من العراق بعد ذلك بأيام وهو غير مصدق لما يجري داخل السجن رغم أنهم لم يبلغوه. وتقول مصادر حقوقية ان الحديث يدور عن 53 سجنا سريا تمارس فيها مختلف أنواع التعذيب وقهر المعتقلين واذلالهم، كما يجري انتزاع اعترافات منهم .
مقار التعذيب
أما المعتقلات الأشهر منها فهي معتقل الجادرية السري الكائن في ملجأ الجادرية الذي تم الكشف عنه عام 2006 من جانب القوات الأميركية ووجه الاتهام في انشائه الى رئيس الوزراء السابق ابراهيم الجعفري ورجل حزب الدعوة القوي ووزير داخليته بيان جبر صولاغ الذي تولى وزارة المالية في حكومة نوري المالكي منتصف عام 2006 باسم باقر جبر الزبيدي، كما ان هناك مقر الفوج الثاني للحرس الجمهوري قرب ساحة النور، وسجن النساء في الكاظمية، وبناية مركز التدريب الأمني في صدر القناة، وسقيفة من سقائف المواد الاحتياطية للسيارات في كسرة وعطش وأربعة أدوار في قطاع 39 مفتوحة علي بعضها مقر أبو درع اسماعيل حافظ، ودارين في قطاع 41 مقر المخابرات الايرانية، وطابقين من بناية وزارة الداخلية يعمل فيها 70 ضابط تحقيق ايرانيا، اضافة الى مهاجع المنتسبين في بناية الاستخبارات العسكرية في الكاظمية، وبناية مستشارية الأمن القومي، ومقر جريدة العدالة قرب ساحة القضاء، ومسجد براثا الذي يديره عضو مجلس النواب السابق والقيادي في المجلس الأعلى الاسلامي الشيخ جلال الصغير، ودار سرية لحزب الله العراقي بزعامة كريم ماهود في قطاع 39، ومقار عدة سرية في الوحدات العسكرية للتحقق والاستجواب وللحصول على اعترافات من المعتقلين.
كما تضاف الى ذلك مقار عدة لأجهزة الشرطة، ومقار الحزبيين الكرديين، ومقر الحزب الشيوعي العراقي، ومقر استخبارات الداخلية، وردهة في مستشفى الصدر العام بمدينة الصدر، ومقار مغاوير وزارة الداخلية، وغرفة في بناية مطار بغداد، ومقر حزب الدعوة في مطار المثنى، ودار أخ موفق الربيعي.
كتاب يوميات الصحفي المصري محمود الشناوي
المدنيون نكصوا من تجاهل هوياتهم المذهبية إلى إخفائها خوفاً من حفلات التعذيب
أقبية الموت ومخافر النخاسة.. في العراق كل الغرباء للبيع
محمود الشناوي
كان التوقيف، منذ عام 2006 أو بداية الانفجار الطائفي، في معظم الأحوال أول الطريق الى الموت، وذلك عبر سلسلة من الأحداث تبدأ بالتعرف على هوية الشخص محل التوقيف سواء في نقطة التفتيش الرسمية التابعة للدولة أو الوهمية التابعة للميلشيات وفرق الموت، وبعد التعرف على هوية الضحية تتواصل الخطوات لزجه في أحد سجون أقسام الشرطة حتى يتم النظر في أمره أو بيعه لاحدى الجهات أو العصابات ما لم ينقذه القدر وتتدخل الجهة التي يتبعها أو أهله أو أي شخص يقدم له المساعدة.
الغرباء.. أول المستهدفين
وكان أكثر المستهدفين في تلك الأثناء هم الغرباء خاصة العرب وفئات بعينها على رأسها الصحافيون طبعا، ولأنني صحافي ومصري فقد كنت أعلم ان بداية طريق الموت هو ان يتم توقيفي في احدى نقاط التفتيش لأتحول الى سلعة يتم بيعها لاحدى الجهات حتى تجري المساومة على دفع مبالغ مالية تصل الى عشرات الآلاف من الدولارات أو يتم تحويلي الى جثة مجهولة الهوية بعد وجبات التعذيب المدعومة بتهم جاهزة، كوني أعمل بمهنة الصحافة وعربي الجنسية .
ولأنني كنت أدرك ذلك جيدا فقد كنت أتحاشى العبور في مناطق يمكن الوقوع خلالها في براثن احدى نقاط التفتيش، الا ان ما كنت أخشاه حدث ذات يوم في منطقة تقع في قلب العاصمة بغداد نهاية العام 2006 حيث كانت الأجواء مشحونة لدرجة ان الموت يزحف في الطرقات باحثا عن زبائن، حيث اضطرتني ظروف المرض الى الذهاب لمستشفى الراهبات الواقع في منطقة الكرادة عصر أحد أيام الجمعة التي لم أجد فيها من يصحبني الى المستشفى، واستوقفتني احدى نقاط التفتيش الرسمية وطلبت أوراقي الشخصية التي كانت في حد ذاتها اتهاما حيث انني مخالف شروط الاقامة بسبب عدم وجود موافقات لمنح الاقامة للعرب باستثناء فريق الدفاع عن صدام حسين والدبلوماسيين وموظفي المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني رغم أنني أعمل في جهة رسمية وجئت الى بغداد موفدا من وكالة الأنباء الرسمية المصرية الا ان تعليمات منح الاقامة كانت في هذا الوقت تنص على عدم منحها الا بموافقة شخصية من وزير الداخلية وبطلب شخصي حالت الظروف دون الحصول عليها أشهر عدة كون الدخول الى مقر وزارة الداخلية في حد ذاته كان أحد طرق الموت للغرباء ونصحني الأصدقاء بعدم الاقدام عليه تحت أي مسمى.وبعد جدل عقيم مع مسؤول نقطة التفتيش أصر على توقيفي تمهيدا لارسالي الى السجن ثم ترحيلي الى مديرية الاقامة لتقول كلمتها بعد أيام عدة وفقا لما أبلغني رغم أنه أكد لي أنه يصدقني وأنني لا ذنب لي في عدم الحصول على اقامة رسمية لكنه القانون ، وقال لي «أعرف أنت صادق.. لكن الاقامة مو خوش أوادم.. هم لا يعطون الاقامة .. لكن شسوي لابد أطبق القانون وأدبك بالتوقيف».. شعرت أنها النهاية وارتعدت فرائصي وعجزت عن التفكير للحظات بعد ان جف الدم في عروقي عندما تصورت مصيري.
وبعد لحظات فارقة، تذكرت سلسلة النصائح التي كان يرددها على مسامعي الأصدقاء وأخرجت قائمة الهواتف، وبعد محاولات عدة للوصول الى منقذ بسبب سوء شبكة الاتصالات الهاتفية تمكنت من الاتصال بشخص يدعى «سيد علي» وهو شيعي من سكان مدينة الصدر يعمل أخوه ضمن تنظيمات جيش المهدي الا أنه كان يحب المصريين، وطلبت من سيد علي ان ينقذني من مصير السجن والعرض على مديرية الاقامة وهو طريق محفوف بالمخاطر ربما ينتهي بالموت أو في أفضل الأحوال المساومة على دفع فدية أو الاثنين معا كما كانت تجري الأمور حيث يتم قتل الضحية بعد الحصول على الفدية.
طمأنني «سيد علي» وطلب مني ان أبلغ الضابط المسؤول عن نقطة التفتيش ان «سيد» سيأتي لاصطحابي وانهاء الموقف، وبالفعل استجاب الضابط عندما سمع الاسم وتغيرت طريقة التعامل معي حتى جاء السيد واصطحبني مع نصيحة بمعالجة الأمر لأنه من الممكن ان تجري الأمور بعد ذلك على غير ما جرت هذه المرة.. ونبهني ان دخولي الى أي سجن سواء لقسم الشرطة أو السجون العامة أو حتى سجن الاقامة معناه النهاية في معظم الأحوال، وكانت الرسالة واضحة تماما بالنسبة لي، اما تقنين وجودي بالعراق مع عدم التحرك الا بمرافق أو الرحيل والعودة الى مصر سالما .
الرشوة هي القانون
ودلني الرجل على طريق معتاد للحصول على موافقة وزير الداخلية وهو دفع مبلغ من المال لأشخاص معروفين يقدمون مثل هذه الخدمات وتأكدت من الأمر بعدما اتصلت بزميلي مراسل جريدة «الأهرام» المصرية في العراق الذي أبلغني أنه يعرف مثل هذا الطريق وسيقوم باللازم بعد دفع المبلغ المطلوب وهو بضع مئات من الدولارات، حيث سبق وحصل على الاقامة بالطريقة نفسها في وقت سابق وهو في طور التحضير لتجديدها من خلال دفع مبلغ مطلوب للحصول على موافقة وزير الداخلية، وبعد نحو شهرين من المساومات والمفاوضات تمكنت أنا وزميلي مراسل جريدة «الأهرام» من الحصول على اقامة رسمية بعد دفع المبالغ المطلوبة كرشاوى عرفت أنها صارت عرفا وتقليدا لانهاء أي أمر بالعراق في زمن المذابح .
ورغم افلاتي من براثن الاعتقال أو التوقيف الا ان شعوري بالقلق والخوف لم يفارقني بعد ان اقتربت كثيرا من بداية طريق الموت خاصة بعد ان علمت الكثير من التفاصيل عن وقائع ما يجري بالسجون والمعتقلات العراقية فيما بعد من أهالي ضحايا تحولوا الى جثث مجهولة الهوية أو لقوا مصرعهم بعد وجبات التعذيب أو استمروا كمعتقلين دون توجيه اتهامات محددة لسنوات عدة أو من ناجين ساعدتهم الظروف على الخروج من طريق الموت الذي يبدأ بالاعتقال.
أما تجارة البشر فهي الأشد وطأة، لما لها من احساس بضياع الكرامة حيث كان هذا السيناريو الأشد رعباً في أيام المذبحة، حيث يطلب لص الأرواح من مرافق الضحية ان يبيعه له ومن ثم يبيعه هو الآخر لمن يدفع الثمن ويفوز بالضحية ليقتلها أو يساوم عليها مقابل فدية .
يقول «عدنان . أ» الذي كان يعمل مصورا لحساب وكالة «الاخلاص» التركية انه تم اعتقاله مع صحافي تركي، عندما كان يقوم بتصوير مشاهد فيديو لما بعد تفجير حدث في ساحة الطيران، وسط بغداد، في بدايات عام 2007، وكان تفجيرا انتحاريا مروعا أدى الى مقتل أكثر من 200 شخص، حيث كانت الوكالة ترسل صحافيا أو اثنين من الأتراك ليتابعوا سير الأمور مع فريق العمل العراقي الذي كان يقوده «الحاج أحمد»، وتم توقيف الاثنين في سجن ملحق بالمخفر .
تجارة البشر
وفي أول ليلة قضاها عدنان يكفكف دموع زميله الصحافي التركي الذي لم يعتد تلك الحياة الخشنة المصحوبة بتحرشات من كل نوع يتناوبها زملاء عنبر الاحتجاز، حتى اقترب منه أحدهم وسأله «تبيعه؟.. هذا التركي خوش صفقة» أي أنه صفقة جيدة رابحة وستربح معنا وتضمن سلامتك أيضا.
ويقول عدنان: «داهمني السؤال وشعرت بالغثيان مما يحدث.. نعم كنت أسمع عن مثل هذه الامور ولكن ان تكون بطلا لأحد سيناريوهات بيع الضحايا فهذا أمر غير معقول ولا يمكن احتماله .. المهم أنني تظاهرت بالرضا وطلبت منهم الوقت لأرتب الأمر وأرسلت رسالة بهذا المعنى الى الحاج أحمد لينقذ ما يمكن انقاذه» .
ويضيف: استقبل الحاج أحمد الرسالة ومنذ الصباح الباكر تحرك مستخدما كل ما أوتي من قوة ونفوذ وعلاقات وأموال وأوراق ضغط واستعطاف لكل الجهات المعنية حتى لا تتم صفقة البيع سواء وافق عدنان أو رفض، وبعد محاولات استمرت ساعات عدة كان عدنان يحاول خلالها مجاراة عراب الصفقة التي يعلم نهايتها، ويتابع قائلا: نجح الحاج أحمد في نقلي والصحافي التركي الى عنبر آخر واستصدار قرار بتحويلهم الى قاضي تحقيق حتى يكونوا في مأمن باعتبارهم حصلوا على أرقام ومواعيد تمنع سلخهم واخفاء آثارهم داخل المخفر، وبعد وساطات عدة كان السفير التركي في العراق طرفا في احداها تم اطلاق سراحنا أما الصحافي التركي فجرى اخراجه من العراق بعد ذلك بأيام وهو غير مصدق لما يجري داخل السجن رغم أنهم لم يبلغوه. وتقول مصادر حقوقية ان الحديث يدور عن 53 سجنا سريا تمارس فيها مختلف أنواع التعذيب وقهر المعتقلين واذلالهم، كما يجري انتزاع اعترافات منهم .
مقار التعذيب
أما المعتقلات الأشهر منها فهي معتقل الجادرية السري الكائن في ملجأ الجادرية الذي تم الكشف عنه عام 2006 من جانب القوات الأميركية ووجه الاتهام في انشائه الى رئيس الوزراء السابق ابراهيم الجعفري ورجل حزب الدعوة القوي ووزير داخليته بيان جبر صولاغ الذي تولى وزارة المالية في حكومة نوري المالكي منتصف عام 2006 باسم باقر جبر الزبيدي، كما ان هناك مقر الفوج الثاني للحرس الجمهوري قرب ساحة النور، وسجن النساء في الكاظمية، وبناية مركز التدريب الأمني في صدر القناة، وسقيفة من سقائف المواد الاحتياطية للسيارات في كسرة وعطش وأربعة أدوار في قطاع 39 مفتوحة علي بعضها مقر أبو درع اسماعيل حافظ، ودارين في قطاع 41 مقر المخابرات الايرانية، وطابقين من بناية وزارة الداخلية يعمل فيها 70 ضابط تحقيق ايرانيا، اضافة الى مهاجع المنتسبين في بناية الاستخبارات العسكرية في الكاظمية، وبناية مستشارية الأمن القومي، ومقر جريدة العدالة قرب ساحة القضاء، ومسجد براثا الذي يديره عضو مجلس النواب السابق والقيادي في المجلس الأعلى الاسلامي الشيخ جلال الصغير، ودار سرية لحزب الله العراقي بزعامة كريم ماهود في قطاع 39، ومقار عدة سرية في الوحدات العسكرية للتحقق والاستجواب وللحصول على اعترافات من المعتقلين.
كما تضاف الى ذلك مقار عدة لأجهزة الشرطة، ومقار الحزبيين الكرديين، ومقر الحزب الشيوعي العراقي، ومقر استخبارات الداخلية، وردهة في مستشفى الصدر العام بمدينة الصدر، ومقار مغاوير وزارة الداخلية، وغرفة في بناية مطار بغداد، ومقر حزب الدعوة في مطار المثنى، ودار أخ موفق الربيعي.